فلسطين .. لن تحلها قوة واحدة!

فلسطين .. لن تحلها قوة واحدة!

كتب رئيس التحرير

وقعت مصر أمس اتفاق شراكة استراتيجية مع روسيا.. عاد بي الزمان إلي الوراء 37 عاما عندما انهي الرئيس الراحل أنور السادات "وكانت له أسبابه الوجيهة" معاهدة الصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفيتي السابق قبل حرب اكتوبر كما طرد الخبراء السوفييت وتعرضت العلاقة بين القاهرة وموسكو لتوتر عنيف بلغ منتهاه عندما وقعت مصر اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل برعاية واشنطن وقال الرئيس السادات وقتها مقولته الشهيرة عن حل الصراع العربي الإسرائيلي وهي أن "99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا".
آمن الرئيس الراحل أنورالسادات أن أمريكا هي اللاعب الرئيسي في المنطقة وربما كانت كذلك في هذا الوقت لاسباب أهمها أنها لم تكن تريد تعريض إسرائيل لحرب جديدة خاصة وأن الدم اليهودي مازال ساخنا بعد أن سفكه المصريون بغزارة في حرب اكتوبر المجيدة.
أمس قال الرئيس مبارك جملة خالدة اعتقد أنها ستكون من الآن فصاعدا من الكلمات المحفورة في ذاكرة التاريخ.. فخلال المؤتمر الصحفي مع الرئيس الروسي مدفيديف قال الرئيس مبارك ان قضية فلسطين لن تحلها قوة واحدة!
عظمة التصريح الذي ادلي به الرئيس مبارك أنه يعكس الخبرة المصرية الكبيرة في حل الصراع العربي الإسرائيلي.. فعندما قال السادات ان 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا كان مستشرفا لواقع سيعيشه العالم بعد السبعينيات وهو عالم القطب الواحد.. ولعل الرئيس الراحل أول من تنبأ بسقوط الاتحاد السوفيتي سقوطاً مدوياً. وأن واشنطن ستنفرد بالعزف علي اوتار الأزمات والمشاكل فاقتنص الفرصة.
ومنذ الأمس ستدخل رؤية الرئيس مبارك الجديدة لحل القضية الفلسطينية التاريخ أيضا.. فالجملة تعني أيضا استشرافاً للمستقبل ولواقع القضية الفلسطينية.. فعالم الغد لن يكون لقوة واحدة.. وبالتالي ممكن أن تعود الثنائية القطبية التي كانت سائدة من قبل. أو يتحول العالم إلي نظام متعدد الاقطاب ومتداخل المصالح.
الرئيس مبارك بحنكته وخبرته ادرك أن دخول قوي إقليمية علي ملف الصراع العربي الإسرائيلي واستقطاب عناصر فلسطينية وعربية إلي جوارها لابد أن يتوقف.. فالتأثير الإقليمي في ملف التسوية يكون سعياً لتحقيق مصالح ذاتية لهذه القوة أو تلك أو لاستخدام القضية ككارت للمساومة علي أزمات ومشاكل خاصة كالملف النووي الإيراني أو الانضمام التركي للاتحاد الأوروبي.. لكن دخول القوي الدولية المؤثرة علي الملف الفلسطيني لن يكون لتحقيق مصالح بقدر ما سيكون عامل استقرار وتوازن للمنطقة وتخليصها من القلق والتوتر ومسببات العنف وغير ذلك.
لقد كشفت أحداث غزة والجريمة التي ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين عن تخاذل أوروبي واضح حيث بدا جيراننا الشماليون ضعفاء تجاه تل أبيب واكتفوا بالتعاطف الظاهري! وبدا الأمر وكأن رفض حركة "حماس" قد شكل الموقف الأوروبي كله تجاه القضية الفلسطينية.. لم يكن هناك إلا الرئيس الفرنسي ساركوزي الذي كان ينتقل من عاصمة لأخري ومن أزمة لقضية محتفظا بوشائجه القوية مع واشنطن وولائه اللانهائي لإسرائيل.. كان يحاول ارضاء الجميع أو اللعب باسم الجميع!! في مصر كان شريكنا في الاتحاد من اجل المتوسط وفي رام الله كان الناطق باسم الاتحاد الأوروبي وفي دمشق أكد أنه مع انهاء عزلة سوريا.. وكان واضحا أنه يلعب بطولة فردية في مسرحية جماعية! أراد أن يبقي لأطول فترة تحت الأضواء لمنافسة برلسكوني رئيس وزراء ايطاليا وغريمه التقليدي ورئيس مجموعة الدول الثماني الكبري في دورتها التي تنتهي بعد أيام.. وكان اهتمامه بالجندي شاليط في مؤتمر اعمار غزة اكبر من اهتمامه بحل القضية نفسها.
كل هذه التطورات والتنافسات علي القضية الفلسطينية كان مبارك يتابعها باهتمام ويدرك أبعادها ويتفهم تداخلاتها.. ووسط هذا كله لاحظ الرئيس أن الدور الروسي يسعي بقوة لاستعادة نفوذه في المياه الدافئة القريبة من الشرق الأوسط وانه حقق عدة انتصارات عسكرية وسياسية علي أمريكا في عهد بوش داخل أوروبا آخرها في جورجيا.. فالكرملين يتابع عن قرب النشاط النووي والعسكري في شرق أوروبا والشرق الأوسط.. وبوتين رئيس الوزراء الروسي له علاقة قوية جدا بالرئيس مبارك وهو مازال يتمتع بقوته السياسية وشعبيته الداخلية تتزايد وروسيا هي القوة الوحيدة في أوروبا التي لها تاريخ سياسي مع القضية الفلسطينية.. وعقد مؤتمر موسكو الدولي للسلام قريبا سيترك لدي العرب شعورا في أن يتحول الموقف الروسي الي الكفة الأخري من الميزان ليعادل التحيز الأمريكي والدعم المطلق لإسرائيل بالاضافة للصمت الأوروبي المريب تجاه جرائمها في الأرض المحتلة.
ان اتفاق الشراكة المصري الروسي الذي تم توقيعه أمس يؤكد ان القاهرة منفتحة علي كافة القوي الدولية في عالم اليوم ايمانا منها بأن العالم لم يعد حكرا علي قوة واحدة مهيمنة.
تأكيد الرئيس مبارك علي أن القضية الفلسطينية لن تحلها قوة واحدة يوضح اننا لا نلقي بأوراقنا في نفس السلة كما أن دخول روسيا مرة أخري الي المنطقة التي كانت لاعبا أساسيا فيها من قبل كفيل باعادة قدر من التوازن الي الميزان الدولي.
ان عبقرية القيادة السياسية المصرية تكمن في انها استطاعت بتمكن وتوافق أن تستضيف الرئيس الأمريكي أوباما في مطلع الشهر والرئيس الروسي يوري مدفيديف في نهايته الأمر الذي يعكس استقلالية القرار المصري واحترامه وسعيه للصالح العام لقضية الصراع العربي الاسرائيلي وتحصينها بالتعددية الدولية أكثر من "زرعها" داخل صوبة زجاجية واحدة تتنفس فيها هواء صناعيا واحدا.
ان ما فعله الرئيس مبارك من توقيع الشراكة الاستراتيجية مع موسكو وقبلها زيارة أوباما التاريخية للقاهرة ناهيك عن تفعيل اتفاق الشراكة مع ايطاليا والاستمرار في الاتحاد من أجل المتوسط باعتبار مصر الرئيس المؤسس مع فرنسا. كل هذا يؤدي الي اتاحة بيئة منوعة وفاعلة لحل قضية من أعقد الأزمات العالمية وهي الصراع العربي الاسرائيلي.
لقد وضع الرئيس مبارك أمس عبارة خالدة وهو يدشن الشراكة المصرية الروسية وذلك عندما أكد ان قضية فلسطين لن تحلها قوة واحدة.. من الآن فصاعدا سيعرف قادة العالم ان المبدأ الذي أرساه الرئيس مبارك سيكون هو خريطة المستقبل للصراع العربي الاسرائيلي.. الرئيس مبارك نسر مصر العظيم يعرف ان الطائرة لها جناحان وذيل وجسم وعجلة قيادة وعدادات. وانها لا يمكن أن تقلع وهي تفتقد لأحد هذه الامكانيات.. وكذلك الأزمات لا نستطيع أن نحسم أمرها في عالم اليوم من خلال قوة واحدة مهما كانت كفاءتها!